الإنكار من الحجاب - سيدي صدر الدين القونوي

قال الشيخ صدر الدين القونوي في النفحات:

اعلم أن الأصل الذاتي مستوعب لجميع الأحكام والأوصاف والكيفيات، وهي تظهر بوجوده الواحد أحكام كيفياته المختلفة غير المتناهية، وتلك الأحكام، والأوصاف، والكيفيات تتناسب وتتنافر، وتتعارض وتتظاهر، وتفيد وتستفيد، وتتولى وتولى، وتعزل وتنعزل، وتبدو وتخفى خفاء مؤقتا؛ تسمى استبطاناً وخفاء غير معلوم الوقت، والهيئات الاجتماعية المدركة في الأشكال بالتشكّلات، ويسمى غيباَ إضافياَ، والحكم يتبع الجمع، و العزل يلزم التفرقة والصدع، وكلما وضح سرّ وكمل أمر حصل عدول ذاتي إلى نقص آخر قد خفي الحكم فيه والعلم اللازمان للوجود الجمعي، فيصل المدد و يظهر العلم و حكمه في الوجود بالعدد.

وأما الرد والإنكار: فهو ترجمة لسان مرتبة البعد و المباينة الحاكمين على باطن المنكر. والإقرار والقبول هو حكم مرتبة الأمر المشترك بين القابل المعترف وبين ما يقبله ويتصل به، وترجمة ايضاً بلسان ذلك الامر، وهذا صفة أهل التقييد من أهل الذوق والحجاب ما داموا مقيدين لمشرب خاص يقضى بأخذ شيء وترك شيء، وتزييف أمر وتقرير غيره وترجيحه، واعتقادهم صحته وفساد ما سواه.

و اليه الإشارة بقوله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ، فَإِنْ أَصََابَهُ خَيْرٌ} أي ما يوافق اعتقاده ويلائم رأيه أو طبعه {اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصََابَتْهُ فِتْنَةٌ} من حيث حكم المقام المقابل لذوقه ومن حيث خاصيته الجزئية {انْقَلَبَ عَلى ََ وَجْهِهِ} أى أنكر ونفر. ولهذا ورد في الصحيح أن الحق سبحانه يتجلى يوم القيامة للمؤمنين فينكرونه ويستعيذون منه ما لم يروا العلامة التي بينهم وبينه، وهو اعتقادهم فيه أنه كذا وليس كذا، وأنه يتحول لهم في الصور فيعرفه كل منهم بعلامته.فهذا من شؤم الإنكار أن يستعيذ العبد من ربّه حال إخباره سبحانه له انه ربّه وتكذيبه ايّاه، فما أعظمها خجلة لأهل العقائد المقيدة! ولو كانت القيامة دار تكليف لشقوا بتكذيب الحق وردّهم إياه حال تجلّيه لهم.

وأما الكمل فإنكارهم ترجمة عن المقام المقابل للمقام المختص بالأمر المردود والمنكر، ليس أن أمراً ما ينافيهم ويباينهم، وكيف! وبحقيقتهم ثبت الاشتراك بين الأشياء، وبها تعارف ما تعارف منها وثبت ودام وظهر حكمه في المحال التي تخصه؟

ومن عرف ما أوردنا عرف أن كثرة الإنكار والاعتراض، ولو باللّه أو بأمر اللّه، من غلبة حكم الحصر و التقييد وعدم رؤية وجه الحق في الامر المردود وعدم معرفة أحدية المتصرف والتصرف، وغلبة حكم الشرك والتضاد و القاضي بالتمييز والتعدد، الحاجب جلاء الذات ونفوذ سلطنتها في محل الراد المنكر فافهم.