قال الشيخ محي الدين بن عربي في كتاب الحجب:
اعلم أنه لولا المحبة ما صح طلب شيء أبداً، ولا وجود شيء سرمداً، ولا كانت حركة من شيء إلى شيء. فالمحبة أصل في وجود الأعيان، وفي تعيّن مراتبها ومقاماتها، وقد يتخيل متخيل أن الخوف أيضاً يوجب ما ذكرنا فيجعله أصلاً ثانياً لما يوجب من الأفعال، وليس ذلك، وإنما اندرج في الخوف حب النجاة، فلولا حب النجاة ما صحت الحركة من الخائف، فيتخيل أن الحركة خوفية وهي حبية.
وإذا كان الحب هو أعلى المقامات والأحوال وأصلها والساري فيها، وكل ما سواه فرع عليه، فالأولى أن نرد إليه جميع المقامات والأحوال، ومما يؤيد أنه الأمر الجامع والكلي كونه مقام أصل الوجود وسيده، ومبدأ العالم وممده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذه الله تعالى حبيباً واتخذ غيره خليلاً ونجياً وصفياً وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم"، فمن حقيقة هذا السيد تفرعت الحقائق علواً وسفلاً، وليس على الله بمستنكر أن يجمع الوجود في اوحد.
فأعطى الله عز وجل أصل المقامات وهو المحبة لأصل الموجودات وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبالحب كان الوجود المحدث، وقد ورد: "كنت كنزاً مخفياً لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم حتى عرفوني" فجاء بالحب. وإذا تحققت أن الحبة هي الأصل وأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم اختص بها فلكل موجود منها مشرب، ولكن تتفاضل المشارب.
واعلم أيها المحب أن الحجب التي بينك وبينم محبوبك ليست شيئاً سوى وقوفك مع الأشياء، لا الأشياء كما يحسب من لم يذق طعم الحقائق. وإنما وقفت مع الأشياء لضعف الإدراك، وهو عدم النفود المعبر عنه بالحجاب، وهو عدم، والعدم لا شيء، فلا حجاب. ولو ككانت الحجب صحيحة لكان من احتجب عنك احتجبت عنه، ولا يعرف الأمر إلا من كان الحق سمعه وبصره، وهو الذي يعرف ما يعبر عنه بالحجاب، لأنك إذا تفرغت لأمر ما بالكلية فبالضرورة تقف معه، وذلك الوقوف هو حجابك، فتتخيل الحجاب، فالوقوف مع الخلق حجابك عن الحق، والوقوف مع الحق حجابك عن الخلق، ولكن هذا من باب التوسع لما ذكر في الكتاب والسنة من ذكر الحجب النورانية والظلمانية وإلا فلا حجاب.