قال الشيخ محي الدين الإسكليبي البيرامي:
والمراد من وضع العبادات انجذاب القلوب عن الفانيات إلى الوجود الأعظم والباقي الأقدم، فلو صليت ألف سنة بقلب مشغول عنها فما أنت على شيء من الحسنة.
أي أن العبادة في اللغة الإطاعة مع الخضوع والتذلل، وفي اصطلاح المشايخ اجتهاد السالك في طريق الحق. وانجذاب القلوب أي التوجه التام، يعني أن المراد من وضع العبادات هو توجه القلب بالكلية إلى الوجود المطلق، وترك الاشتغال بما سواه. فلو عبدت واجتهدت ألف سنة بقلب مشغول عن سواه لا يحصل لم من عملك شيء من الحسنات أصلاً، كما قال سيدي الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس سره: لو أقبل الصديق على الله تعالى ألف ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فما فاته أكثر مما ناله، لا سيما كانت همة باطنه وأشغال ظاهره بأمور الدنيا فكيف تحصل له الحسنات وكيف يدرك أمور الآخرة؟
وذلك أن حقيقة الحسنات عند العارفين هي الكمالات الباطنة، والمشاهدات والتجليات من الصفات والذات، وهذه الحسنات لا تحصل إلى بعمل خالص هو توجه القلب إلى الوجود المطلق بالكلية من غير اشتغال بالغير. فإذا حقق ذلك تخلص العلم من ظلمة الوهم، وذلك أن المعرفة والعلم الكلي في الحقيقة خاصية النفس الناطقة، وهي الروح الإنساني. وعند مفارقة المقيدات تصير الروح عين العلم الكلي لا الجزئي، وعين المعرفة الكلية. وذلك أن الروح نتيجة عالم المعاني، وعالم المعاني نتيجة أول الهيئات الاجتماعية من توجه الحق باعتبار مفاتيح الغيب الذاتي الحقيقي، وهي الأسماء الذاتية الفاتحة لغيب الذات، كالله والرحمن والرحيم، فالروح عين العلم الكلي، والعلم الحاصل للأجزاء العنصرية المركبة علم جزئي اعتباري.
فأين أنت يا غافل الذي قصرت همتك عن إدراك الحق؟ واعلم أنك كلما اشتغلت بالعلم الظاهر ازددت بعداً عن الحق، إذ الحق منزه في أحديته عن الصفات والأفعال، فالمشتغل بالدرس ما لم يطلب حقيقة العلم، وهو علم التوحيد الحالي الذوقي الموصل إلى الذات الأحدية، فقد وقع في الكثرة، وهي الحجاب عن الحق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة" ومن جملة الحجاب النوراني العلم الذي وقع به الشخص في الكثرة، كما قيل: العلم نقطة كثرها الجاهلون، والكثرة منافية للوحدة، فالمشتغلون بالدرس بعيدون عن درك الحق لوقوعهم في الكثرة.