حيرة العارفين ليست كحيرة الغافلين - سيدي ميرماه البخاري الحسيني

قال الشيخ ميرماه البخاري الحسيني المدني، المتوفى سنة 1063 هجرية:

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رب زدني فيك تحيراً"، الحديث، أي من توالي تجلياتك وكثرة تقلبات شؤون وصفاتك، وهي حيرة أولي الأبصار في توالي البارقات الذاتية، وتطابق أشعة الأنوار الإلهية، ولذلك قال الشاعر:

تحيرت فيك، خذ بيدي         يا دليلاً لم تحيّر فيكَ

وهذه الخيرة هي المشار إليها في إخبارات أهل الفتوح عن حضرته سبحانه: "حيرتك أوصلتك إلي".

والنوع الآخر من الحيرة مقابل لما ذكر، وهي حيرة أهل النظر والأفكار، أي الذين أرادوا المعرفة بالرسم والحد والاستدلال، فتحيروا في العوارض النفسية واللوازم البشرية وهم كمن قال: {واحسرتا على ما فرطت في جنب الله} كما قال حسين بن منصور الحلاج:

من رامه بالعقل مسترشداً      أسرحه في حيرة يلهو

وشاب بالتلبيس أسراره        يقول من حيرته: هل هو؟

فأولو الأبصار ساروا في ميدان الأحدية الصرفة الحقيقية، بالحركة الدورية، لم يزل ابتداؤه انتهاؤه، ومرماه مرقاه دنيا وأخرى، ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره. فإن المبادي والغايات إنما تصح بالنسبة والفرض رعايةً للمراتب، واعتباراً لأحكامها، والمتحير فيه سبحانه حر عن جميع السوى، بل عن التحير. وهم المخاطبون بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله} لا بعقولكم، كما قال عز من قائل: "فبي عرفوني"، فنظرهم بنور الله لا بأبصارهم، ويشهد به شاهد الحق: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".

وأما أهل النظر والفكر بأبصارهم وبصائرهم فهم تحيروا في مدارك حواسهم، ومعارج مظانهم، فطلعوا ونزلوا، وبعدوا وقربوا، قال الله تعالى: {ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم، ألا إنه بكل شي محيط}، وإحاطة الحق سبحانه وراء الإحاطات المعروفة المعقولة.

واعلم أن المعرفة، كائناً ما كانت من أي شخص بأي طريق ترجع إلى معرفة الحق الضرورة، قال الله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وأخبر وفسر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لو دليتهم بحبل لهبط على الله"، وقال الحق بلسان أشرف الخلق: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء".

إلا أن من اقتصر في طريق العرفان على مجادلة أهل البرهان ومخاصمة علماء المعاني والبيان فقد خسر خسراناً مبيناً، لأن المطلق بالإطلاق الحقيقي لا يتقيد بالتعينات والشؤون والإضافات من حيث الذات حقيقة، لأن التعين نسبة إضافية لا وجود له في حد ذاتها، فلا يتقيد الوجود بالعدم إلا باعتبار ما. أما المتقلب مع القيود والشؤون والتعينات فقريب من حضرة الإطلاق، وهو العارف، وفوق كل ذي علم عليم. فارجع البصر ترى العين بلا تعين البين، ولكن البينونة ثابتة لازمة للتفرقة بين الوجهين، فاحتار العارف في البين لثبوت الطرفين مع علمه بأحدية العين المستلزمة لنفي الاثنين، فاعترف بالعجز وقال: "العجز عن درك الإدراك إدراك".

واعلم أن الحق تعالى أعظم من أن يحتجب بشيء، وكيف والحجاب والاحتجاب شيء وهو كان ولم يكن معه شيء؟ وإنما الناس محجوبون بأحوالهم الطبيعية، وظنونهم ومعتقداتهم في الله لا عن الله وهي من جملة أحوالهم، وكذلك ما يسمونه كشفاً وبصيرة إنما هو من أحوالهم حال خلو بواطنهم عن خواص الكثرة. فالحق سبحانه لم يزل متجلياً وسارياً فيهم من غير حلول وسريان مفهوم معلوم، وهو تعالى الظاهر والباطن في عالم الشهادة والغيب، إلا أننا ليس لنا معرفة إلا من حيث أنيته لا من حيث هويته، ومن حيث اعتبار تجلياته لا من حيث كنه حقيقته، وظهور التجليات وآثارها وأحكامها إنما هو بحسب قابلية المجلى واستعداده، فترجع كثرة النسب والإضافات إلى مراتب الظهور والبروز لا إلا نفس الذات الغنية عن العالمين فافهم.