ازهد في ما سوى الله يحبك الله - سيدي أبو بكر البناني

قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:

اعلموا وفقكم الله أن الكائن في الكون من حيث هو كون تجده أبداً ذليلاً حقيراً فقيراً، وإن كان ذا عز وثروة فإن ذلك أمر صوري لا حقيقة له.

وبيان ذلك أنه لما كان في كونه بأنانيته كان عاشقاً والكون معشوقاً وحال العاشق أبداً يقتضي الذلة والمسكنة والفاقة لأعيان ما تعشق إليه، والكون من حيث كونيته لا قيمة له ولا بال، فهو في نفسه ذليل حقير، كذلك من استغنى به يكون ذليلاً بذلّه فقيراً بفقره حقيراً بحقارته، فظاهر من اعتز بالكون جمال وباطنه جلال، أو تقول: ظاهره عز وباطنه ذلّ، أو تقول: ظاهره غنى وباطنه فقر إلى غير ذلك.

ومن كان فيه بنعت الإثبات للحق وبنعت المحو والزوال للكون فإنه يصير معشوقاً ومطلوباً ومحبوباً، ومن ألطف شمائل المحبوب وكمال رقة حواشيه تحلّيه بحلية التيه، فكلما تاه على محبه تقوت رغبته وازداد تعطشاً، فالكائن في الكون بربه كلما ازداد نفوراً وزهداً فيه تقوت رغبة الكون فيه.

وقد جاء في الخبر أن الجنة اشتاقت إلى ثلاثة: سلمان وعمار وبلال،وما اشتاقت إليهم إلا لما هم عليه من كمال الحرية عنها وكذلك جميع الحضرات تشتاق إلى كامل الحرية عنها لما هو عليه من كمال الزهد فيها، لأن أحوال المطلوب كلها عز عكس ما للطالب، فالمطلوب ظاهره ذل وباطنه عزّ، ظاهره جلال وباطنه جمال ضد ما عليه الطالب.

فكن يا فقير في الكون بالمكون تكن أغنى العالمين، وسبيل ما ذكرنا كنس الباطن من رائحة الوجود، فاعملوا إخواني في طلب الحق تجدوا الحق ظاهراً، ومن رام ما ذكرنا من باب الحدس والتخمين فأمره كما قال رب العالمين: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةِ سَاهُونَ}، والغمرة أصابتهم من صولة نفوسهم عليهم فسهوا عن مراد الله منهم فافهم.