قال الشيخ عبد الرحيم القره حصاري البيرامي:
ضدّ التوحيد هو الشرك، ولا نجاة من الشرك إلا بالتوحيد الحق. وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوفَ ما أخافُ على أمتي الشركُ الخفيّ، وهو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء".
والسالك لا ينجو من هذا الشرك إلا إذا سطع في سره نور التوحيد، فشهد أن لا موجود إلا الله وأفعاله. فإذا انفتحت بصيرته بنور المعرفة علم يقيناً أن الوجود المطلق لله تعالى، وأن ما سواه إنما يظهر كالسراب في عين الغافل. لذلك يجمع السالك توحيد الأفعال، فيسقط عن نفسه نسبة الفعل والصفة والأثر، ولا يثبت الفعل إلا لله وحده، شاهداً أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله.
فإذا استشكل عليك هذا، فانظر إلى الريح كيف تحرك آلاف الأشجار، وليس لشجرة منها قوة ولا علم بحركتها. وكذلك الإنسان، لا حول له ولا قوة إلا بالله، فكيف تُنسب الأفعال إليه؟ فإن وجوده فيض من الحق، وأفعاله تابعة لفيض الوجود. وقال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى أنه لا مؤثّر في الوجود سواه. وكذلك قوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ يدلّ على أن الإرادة نفسها من خلق الله.
فالمعلوم إذن أن العبد يشهد الفعل ولا يوجده، وأن الفعل فعل الله على التحقيق. ومن رأى الفعل بهذه العين علم أنّ الفاعل واحد، ومن وقف عند الآلات والأسباب فهو صاحب حجاب. ولذلك قيل: «من رأى الفعل علم أن الفعل للواحد، وأما أهل الحجاب فلا يعلمون إلا الآلات». وقد رأى سادات أهل الطريق بنور البصيرة أن جمال الحق متجلٍّ في كل شيء، ففهموا معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾. وقال أهل التحقيق: من أدرك حقيقة «لا موجود إلا الله» ورأى الوجود كله تجلياً لوحدانيته، علم أن كل صفة وكل أثر وكل صورة ليست إلا ظهوراً للحق في مراتب الخلق. وسُئل عارف عن التوحيد فقال: "التوحيد صفة الواحد الحق؛ فلا الموحد يرى مع الله غير الله، ويعلم أن الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء لله وحده، وما في العالم إلا تجلّيه".
واعلم يا أخي أن أهل التوحيد ثلاثة: أهل العقل، وأهل العين، وأهل العقل والعين معاً. فأهل العقل يرون الخلق ظاهراً والحق باطناً، فالخلق عندهم حجاب. وأهل العين يرون الحق ظاهراً والخلق باطناً، فالخلق عندهم مرآة يشهدون فيها الحق. وأهل الجمع يرون الحق في الخلق والخلق في الحق، وهو مقام قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وهم القائلون: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه"وهؤلاء يرون الخلق ظهوراً لأسماء الحق وصفاته، فلا تحجبهم كثرة الصور عن وحدة الوجود. وهم أهل مقام: "خطأ الأبصار لا يغير الحقائق".