قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:
اعلموا وفقكم الله لحفظ حدوده أنه قد ورد في الخبر عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: "يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنّتي فقد أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة".
فتأملوا إخواني هذه السياسة والنصيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، حيث دلهم على كنس الباطن من رائحة الوجود بحيث لا تبقى فيه بقية، لأن منشأ الغل والغش إنما هو ميل الباطن إلى حب الرياسة وحب العلو وغير ذلك من الأوصاف العلوية، فإذا مال القلب إلى حب هذه الأشياء أبغض من ينازعه فيها، والوجود كله عاكف على حبها إلا من أخذ الله بيده فيلزمه بغض الوجود بأسره وغشه ومخادعته طلباً لحظه وغرضه فينقطع، بسبب ذلك عن إحياء السنة.
فلذلك لما أرشد الله الصوفية إلى الطريق المستقيم نظروا إلى أسباب القطيعة أصلاً وفرعاً فوجدوا فروعها ممتدة لأنها لا نهاية لها فأحكموا أصولها وألحقوا بعضها بكلها، فانحصرت في أصل واحد، وهو حب العاجلة إذ هو رأس الخطايا كما ورد في الخبر. فألزموا نفوسهم الزهد فيها فقدروا على تطهير الباطن من جميع الأوصاف المذمومة وقدروا على إحياء السنة من حيث هي، ولولا أن بواطنهم مكنوسة من حب الوجود الذي هو مسمى الدنيا ما قدروا على السير إلى الله شبراً واحداً وما أقبل على الله من أقبل إلا بتخليص باطنه من الأوصاف المذمومة وعلى قدر التخلي يكون التحلي.
واعلموا أنه من السنة المؤكدة حضور قلوبنا عند الذكر وعند المذاكرة لأجل حصول الانتفاع بهما، إذ الذكر بلا حضور لا يكون معه مدد، وإذا فقد المدد حصلت السآمة في الذكر، وإذا حصلت السآمة استولت الغفلة على القلوب، وإذا استحكمت الغفلة في القلوب صيرتها مزبلة للتنزلات الشيطانية.
وكذلك صاحب المذاكرة، إذا لم يكن قلبه حاضراً عند المذاكرة لم يذق طعم المعاني وإذا لم يذق طعمها لم يتيسر له العمل بمقتضاها ومن لم يعمل بمقتضاها استولى عليه الفرق، وفي حضرة الفرق تظهر النفس بصولتها وتتحقق جميع المهلكات، فأجمعوا قلوبكم على الله عند الذكر وعند المذاكرة حتى تنتفعوا بوقتكم الذي أنتم فيه، وما من فقير عطل حكم الوقت إلا شتّت الله عليه أمره وملكه لنفسه، فلا تبال به في أي واد تلقيه، فما من فقير ترون نفسه قائمة عليه في أوقات المذاكرة إلا واعلموا أنه مفروق، وما من فقير ترونه مالكاً لأحواله في المذاكرة إلا واعلموا أنه مجموع، أي غائب في حضرة الحق كما أن الآخر غائب في حضرة الخلق فافهم.