حب الدنيا هو الذي يوجب الشرك في العمل - سيدي أبو بكر البناني

قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:

أردتم إخواني أن تصفوا أحوالكم وتزكوا أعمالكم وتشرق أنواركم، فاعملوا على الصدق والإخلاص تكونوا لله من الخواص،. إذ قد علمتم أن الله تبارك وتعالى يقول لنا من طريق رفع الهمة وتحرير القصد: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، والرفع عبارة عن القبول وفتح الباب للدخول، وإذا قبل من الأعمال القليل صفت الأحوال من التخبيل وأشرقت على القلب أنوار الجليل الجميل، فعند ذلك يستحق العبد أن يسمى عبد الله حقيقة.

والعمل الصالح في الآية هو الذي قُصِدَ به وجه الله تعالى الذي هو عبارة عن بارق توحيده، أو تقول: هو الذي استوى ظاهره وباطنه ـ نعني في تحرير القصد - وهو الذي قارنه سر الإخلاص، فإذا وجد الإخلاص ووجد سره الذي هو الصدق فيه كان العمل مفتاحاً للربح وسبباً في النجاة وإلا هلك صاحبه، إذ رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قارىء للقرآن وهو يلعنه.

فأخلصوا أعمالكم الله يكفكم القليل منها. هذا ونرى هذه الخصلة العظيمة لا يمنحها الله سبحانه إلا لعبد أعرض عن الدنيا إعراضاً كلياً وأقبل على مولاه إقبالاً كلياً، إذ حب الدنيا هو الذي يوجب الشرك في العمل. وأما من أسقط عن قلبه ملاحظة الكونين وخلع نعل الوجود من رجله فإنه يتأتى له تحرير التوحيد على بساط التفريد ولهذا المعنى اللطيف شرع الله لنا الزهد في الدنيا التي هي عبارة عن كل قاطع عن الله سبحانه إذا ما نصبت لك الأكوان لتراها بعين البصر وحدها فتقطعك عن الله سبحانه، بل نصبت لترى فيها مولاها بعين البصر والبصيرة من حيث الدلالة ورؤية الآيات فتكون الدنيا وسيلة إلى الله سبحانه كما هو أصل وجودها.

والزهد في الدنيا عبارة عن ترك النظر إليها بعين البصر فقط، ولما علم الله تعالى منا أننا لا نقدر على ذلك في أول قدم أمرنا سبحانه برفضها ظاهراً وباطناً حتى إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال وأذن له الحق في التصرف فيها رجع إليها ظاهراً وقد خلعت عليه خلعة الأنوار الصائنة له من شهود الأغيار، فعند ذلك يأخذ بالفهم عن الله ويترك الفهم عن الله لأنه تحقق بالأمانة فهماً وبالمكاشفة حالاً، وهذه الحالة مزلة قدم العالم بأسره لأن النفس مجبولة على حب الكمال الذي هو وصفها الذاتي. فاحذر يا أخي غرتها وتلبيسها واسمع قول الصحابي الجليل وهو سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال: "تتبعنا الأعمال كلها فما وجدنا أفضل من الزهد في الدنيا"، فالزاهد عمله كثير وإن قل والراغب عمله قليل وإن كثر، إذ ما كثر عمل برز من قلب راغب ولا قل عمل برز من قلب زاهد.