قال سيدي أبو المواهب الشاذلي قدس سره:
جاء في الحديث عنه الله أنه قال بين جماعة من الصحابة: "إن القلب إذا دخل فيه النور انشرح وانفسح" قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود".
قلت: هذه الحالة حالة قلب مقام الإيمان، وفوق هذا القلب قلب صاحب مقام العرفان وهو القلب الذي فرّغه الله مما سواه وبحبه لا بحب غيره ملاه. فالأول كالكرسي لهذا القلب والعرش، والثاني كمحدب فوق الفوق والعرش. قال الله تعالى في حق هذا القلب العظيم: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبِ سليم}.
وأيضًا القلب الأول يتقلب بين حالتي الخوف والرجاء لما يرد عليه مع السمع من الأمور المغيبة عنه عواقبها فتراه يفرح تارة ويحزن أخرى ويتجافى عن الدنيا تارة ويركن إلى الآخرة ، ليس له لمدة عمره راحة لغلبة تعبه، وعن هذه الحالة المتقلبة السريعة عبرت بين صاحب الشريعة بقوله: "مقلب القلوب".
والقلب الثاني ثابت لا يتزلزل ساكن كالجبل لا يتحرك ، كلما مرت عليه دقيقة استجلى فيها حقيقة، مشكاته أبدًا مضيئة وزجاجته درية، وفتيلته نورانية، وزيت زيتونته شجرته الإنسانية المشرقة بنور الأحدية، لم يمتزج بفتن المطالع الشرقية، ولا بأكدار المغارب الغربية، بل حكمه الحق وجعل له التصرف في القلوب، وأطلعه على عوالم الغيوب. وعن معنى هذا القلب أشارت المعرفة المحمدية بالدعوة القدسية: "اللهم مصرف القلوب"، فانظر فهمك الله معاني العبارات النبوية، كيف أثبتت التصريف إلى الحالات القلبية وهي معاني الحقيقة، وكيف دل ببقية الحديث بقوله: "إلى طاعتك" على ظاهر الشريعة الجلية، فهذا قلب وسع الله، وذاك قلب وسع أمر الله، فشتان بين آمر ومأمور، وخائف ومسرور.
واعلم أن كل قلب اشتغل بحالة من الحالات أو مقام من المقامات فهو محجوب به عن الرقي إلى ما فوقه، سواء وقف السالك أو سار أو هرول أو طار، ما لم يحط رحل راحلته بباب الفناء المبلغ كعبة المنى، فهنالك قرة العين وإذا كان الحال بصاحبه حال فاحذر المقام في المقام، فلهذا لم ينفك العبد عن صفة العجز والافتقار ولو اصطلم في حضرة الأنوار.