من عرف نفسه عرف ربه - سيدي أبو بكر البناني

قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:

ما بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلا ليعلمنا مكارم الأخلاق، فحسن يا أخي أخلاقك يحسن الله أحوال من معك، إذ الأحوال التي أنت لابس لها هي التي يكون عليها من معك إذ المرء على دين خليله، وأقم ميزان الشريعة على نفسك وانظر بعين الحقيقة إلى الوجود الخارجي كي تستريح من تعبه، ومن عكس في الميزان طال تعبه في نفسه ومع الناس.

وقد علمت أن نفسك هي شريعتك والوجود هو حقيقتك وعلى قدر معرفة الشريعة تكون معرفة الحقيقة، وعلى قدر جهلك بنفسك يكون جهلك بالوجود لا غير، ولذلك ورد في الخبر: "من عرف نفسه عرف ربه"، فمن صحت معرفته أولاً صحت معرفته ثانياً ومن لا فلا ، ومن شرط معرفة النفس أنها لا تعرف إلا بصفاتها القائمة بها من الذل والافتقار والاحتياج واللجأ والاضطرار، كما أن معرفة الحق والحقيقة لا تكون إلا بمعرفة صفاتها التي هي الكمال والغنى والعز والكبرياء وغير ذلك.

فالمعرفة بالنفس معرفة الله والمعرفة بالله معرفة للنفس لكن لا بمعنى واحد. وأيضاً معرفة النفس شريعة فلذلك قدمها في الذكر، ومعرفة الله حقيقة ولذلك أخرها كما في الحديث المتقدم.

وفي تقديم معرفة النفس على معرفة الله إعلام بأن الشريعة أصل والحقيقة فرع، وهو المنهاج الواضح والطريق المشروع وهو طريق السلوك عند أهل الإرادة، وإذا عكست الأمر صار جذباً والجذب نادر والنادر لا حكم له ولا قياس عليه لأن الحكم للغالب، وشتان بين من عرف نفسه بالله وبين من عرف الله بنفسه. لكن لما كان باب السلوك هو الأغلب قيل فيه أصل، بل قالوا : إن باب المعرفة الثاني غير مفتوح لغير أهله، وقد علمت أن أبواب المعرفة ثلاثة: باب الإسلام ، وباب الإيمان، وباب الإحسان وأين الأول من الثاني، وأين الثاني من الثالث، فباب الإسلام لأول المعرفة، وباب الإيمان لوسطها، وباب الإحسان لغايتها.